لا شك أن غاية قانون للعمل بشكل عام، تنظيم العلاقة بين أطراف الإنتاج الثلاثة: الحكومة، أصحاب العمل والعمال. بحيث تحدد أحكامه دور الحكومة وحقوق وواجبات كل من أصحاب العمل والعمال.
لسنا هنا في مجال إطلاق أحكام قيمية على نصوص قانون العمل اللبناني لجهة مدى مراعاتها مبادئ العدالة والإنصاف في العلاقة بين أطراف الإنتاج، فهذا الجانب نتركه لمناسبة أخرى. مع الإشارة إلى أن أي نص دستوري أو قانوني يصدر هو تعبير عن لحظة توازن بين القوى أو الأطراف التي يستهدفها هذا النص. ومن البديهي أن أحكام قانون العمل وضعت لتطبق بغض النظر عن مواقف الأطراف المشار إليها أعلاه، طالما أن القانون صدر وفق الأصول الدستورية والقانونية المرعية الإجراء .
وبالتالي، وللسهر على حسن تطبيق أحكام قانون العمل، أنشئ جهاز في وزارة العمل وهو جهاز تفتيش العمل المتواجد في جميع المحافظات.
وينقسم مفتشو العمل إلى قسمان: الأول، يطلق عليه عرفاً تسمية تفتيش إداري. والثاني، يتابع كل ما يتعلق بتطبيق شروط الصحة والسلامة المهنية في المؤسسات. وبدوره، ينقسم التفتيش الإداري إلى فئتين وفقاً للتسلسل الإداري المعتمد في الإدارات العامة: مفتش عمل مساعد وهو من الفئة الرابعة، ومفتش عمل من الفئة الثالثة والأعلى رتبة من الأول. أما دور التفتيش الإداري، فهم مراقبة الجوانب المتعلقة بأجور العمال ودوام العمل وساعات الراحة وبدل النقل الخ.
أما تفتيش العمل المولج بمسائل الصحة و السلامة المهنية، فيتولاه مفتشو العمل من أطباء ومهندسين. وتقوم مهامهم على متابعة مدى التزام المؤسسات بالقوانين والأنظمة المعمول بها وبأحكام إتفاقيات العمل الدولية المصادق عليها من قبل الدولة اللبنانية والتي تحدد القوانين والأسس الواجب اعتمادها لضمان صحة و سلامة الأجراء وحمايتهم من الأمراض المهنية والتي يمكن أن تتأتى من عدم التزام المؤسسات بالشروط المعتمدة علمياً لجهة ما يتعلق بنسبة التلوث والضوضاء والأضواء وطبيعة الملابس الواجب إرتداؤها في ظروف عمل معينة الخ.
يمكن لجهاز تفتيش العمل أن يمارس مهامه وفق برنامج معد سلفاً (تفتيش دوري) محدد بالزمان والمكان ويغطي هذا البرنامج منطقة جغرافية معينة وضمن فترة زمنية معينة (فصلية، نصف سنوية، سنوية، الخ). كما يمكن أن يكون التفتيش طارئاً بناء على تكليف من الإدارة بمهمة محددة بالمكان والزمان، كأن يجري تفتيش مؤسسة ما بعد ورود معلومات عن إرتكابات تمارس فيها أو ورود شكوى من احد الأجراء العاملين فيها.
لقد منح المرسوم رقم 3272 الصادر بتاريخ 26 حزيران عام 2000 جهاز تفتيش العمل صلاحيات واسعة مثل "الإشراف على تنفيذ كافة القوانين والمراسيم والأنظمة المتعلقة بظروف وشروط العمل" (المادة الثانية). أما المادة السادسة من المرسوم المذكور، فقد خولت مفتشي العمل "الدخول بحرية ودون إخطار سابق إلى جميع المؤسسات الخاضعة لمراقبتهم أثناء وخارج فترات العمل في المؤسسة وإلى أي موقع عمل فيها".
إضافة إلى هاتين المادتين المشار إليهما أعلاه، هناك العديد من المواد الأخرى التي تؤكد على مدى إتساع صلاحيات مفتش العمل والتي تجعل دوره مفصلياً في تحقيق التوازن بين مصالح صاحب العمل و الأجير وفقاً للأحكام التي نص عليها قانون العمل.
إذن، يتبين أن النصوص أعطت جهاز تفتيش العمل أدوار غاية في الأهمية، إذ أن المهام المنوطة به لا تقتصر على منع وقمع المخالفات الناتجة عن سوء تطبيق أحكام قانون العمل، بل تتعداها إلى ما هو أكثر اهمية وفائدة. فعلى مفتش العمل أن يلعب دور المرشد والناصح سواء لصاحب العمل او الاجير. فيشرح للطرفين مضامين أحكام قانون أحكام قانون العمل والغاية التي وضعت من اجلها. كما يمكن لجهاز التفتيش أن يكون مصدراً أساسياً للمعلومات عن أوضاع سوق العمل، وتجميع هذه المعلومات وتراكمها عند المرجع المختص تؤسس لسياسات جديدة تتعلق بسوق العمل ومعرفة حاجاته المستجدة أو تسهم في تعديل سياسات قائمة.
يبقى السؤال البديهي: ما مدى التطابق أو التلائم بين النص وواقع تفتيش العمل؟
العدد والإعداد والإمكانات المتاحة وتحصين جهاز تفتيش العمل بوجه الضغوطات والإغراءات التي يمكن أن تفرض عليه خلال آدائه مهامه، هي العناصر التي في حال تحققها، تسمح لمفتش العمل القيام بدوره بالشكل المطلوب. غير ان نظرة سريعة إلى واقع تفتيش العمل تنبئ بعدم توفر العناصر المذكورة وإن توفرت فبشكل جزئي ومحدود.
يقدر عدد المؤسسات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الحجم أكثر من ثمانين ألفاً، في حين لا يتجاوز عدد مفتشي العمل الموزعين على كافة المحافظات المئة مفتش ومفتشة. مع الإشارة إلى أن العديد منهم يقومون بأعمال إدارية داخل الوزارة، بسبب النقص في عديد الجهاز الإداري.
هذا النقص الفادح في عدد مفتشي العمل مقارنة بعدد المؤسسات يشل إلى حد كبير جهاز التفتيش مما يجعل دوره مقتصراً على التحقيق في الشكاوى الواردة إلى الوزارة والذي يجري غالباً في مكاتب المفتشين ويمكن الإنتقال إلى مكان العمل إذا إرتؤي ذلك.
عندما يصدر قرار تعيين مفتش العمل يقسم اليمين القانونية أمام قاضي الجزاء ويباشر عمله فوراً من دون اي إعداد مسبق وحتى قبل ان يطلع المفتش المعين على قانون العمل. وبالتالي، كيف يمكن لهكذا مفتش أن يكون المرشد والناصح لصاحب العمل و العامل؟ كيف يمكنه أن يكون عين الوزارة في سوق العمل والساهر على حسن تطبيق أحكام قانون العمل .
مفتش العمل هو مواطن أولاً و أخيراً، اختار عمله هذا بغية تامين الحد الادنى لحياة كريمة له ولعائلته، وهذا طبعاً ينطبق على باقي العاملين بالقطاع العام. فإذا لم يتأمن هذا الحد الأدنى يقع المفتش في مازق الإختيار بين الوقوع فريسة العوز إذا إكتفى بالراتب المحدد له أو اللجوء إلى إعتماد أساليب وطرق غير شرعية لتأمين النقص الناتج عن ضالة راتبه. مع العلم إن مفتش العمل يقوم بمهامه في مناطق مختلفة بوسائل نقل خاصة سواء بواسطة سيارته أو باستئجار سيارة. أما بدل النقل المخصص للمفتش لا يغطي أكثر من ثلاثين في المئة من المصاريف الفعلية. إن لجوء المفتش إلى الخيار الثاني سيكون ثمنه غض النظر عن المخالفات والانتهاكات التي يتعرض لها الأجراء. وبالتالي، التغاضي عن تجاوزات أحكام قانون العمل. ما يساعد على اللجوء إلى هكذا خيار هو ما يسمى بثقافة الفساد السائدة والتي تطال الهرم من أعلاه إلى أسفله.
أخيراً، بالنظر لأهمية الدور الذي يضطلع به تفتيش العمل لجهة رعاية العلاقة بين أصحاب العمل والأجراء تحت سقف أحكام قانون العمل، لا بد من ردم الهوة بين النص والواقع من خلال تعزيز هذا الجهاز بالعديد اللازم والإعداد الكافي والتحصين المادي والمعنوي. نشير ختاماً، إلى أن المتضرر الأول من الواقع القائم حالياً يبقى العامل. إذ أن النصوص القانونية والأنظمة المرعية مهما بلغ مستوى إنصافها واعتمادها أسس العدالة، تبقى حروفاً ميتة إذ لم تطبق وإذا أصاب الشلل الجهة المعنية المولجة السهر على حسن تطبيقها.